هذه التدوينة مُهداه إلى جدي ، بوجوده الأبدي في داخلي .
مرحبا !
دائماً ما يدور في بالي سؤال عن ماهية وجودنا .. الوجود مابعد الجسدي .. الوجود الروحي إن صح التعبير
طرحت استبيان صغير على تويتر متسائلة عن ما الذي يصنع وجودنا ..
50% أجابوا بأن انجازاتنا هي ما تصنع وجودنا ، بينما فقط 30% أجابوا بأنها الذكريات .
قد أكون شاعرية هنا أكثر من علمية ، و لكن من وجهة نظري و التي تخالف السواد الأعظم
هي أن مايصنع وجودنا هو الذكريات , الذكريات الكامنة في أدمغتنا و الذكريات التي تخصنا و الكامنة في أدمغة من نتعامل معهم .
الذكريات القريبة حتى سن الخامسة و الذكريات البعيدة ( الطويلة ) مابعد عمر الخمس سنوات .
إذا لم تكن لديك ذاكرة لن تكون قادراً على الإنجاز حتى !
كما حدث ل HM مريض د.سكوفيلد و الذي سنتحدث عنه في هذه التدوينة .
إن لم تصنع ذكريات مع أحد ممن حولك فلن يكون لك وجود ، لن يتذكرك أحد في حياتك أو مماتك ،
ووجودك الأبدي يكون في ذاكرة من تعاملت معهم ! كما أنني أجده من الإجحاف أن نهمّش وجود اولئك البسطاء الذين عاشوا و ماتوا مخلفين ورائهم الحب و الخير فقط ، لا أموال و لا إنجازات مادية كما نحاول جاهدين أن نفعل .
let’s talk science :
هل تُعتبر موجوداً منذ ولادتك ؟ أم منذ أول ذكرى لك ؟
بالنسبة لك ستعتبر وجودك حقيقياً عندما تبدأ بتذكر ما يحدث لك ، و هذا يحدث غالباً بعد سن الخامسة .
بينما ستعتبر موجوداً لدى من تحب بعد ولادتك مباشرة ، عندما يبدأون بصناعة الذكريات عنك و تخزين هذه المواقف في ذاكرتهم .
أي أن وجودك ( بشكل تقني ) هو مرتبط بذاكرتك و ذاكرة الآخرين .
علمياً ، أنت تعتبر نفسك موجوداً و تبدأ بإدراك ذاتك بعد سن الرابعة أو الخامسة ..
و هذا كله مرتبط بتركيب دماغي يسمى ( الحُصين أو قرن آمون ) و المسؤول عن تخزين الذاكرة القريبة و تباعاً ، تحويلها إلى ذاكرة بعيدة أو طويلة الأمد .
قرن آمون ( hippocampus ) هو جزء من الجهاز الحوفي المسؤول عن العديد من الوظائف كالذاكرة و التصرفات و العواطف و ردود الفعل .
قرن آمون هو ليس التركيب الوحيد المسؤول عن الذاكرة و لكنه حجر الأساس في تكوين الذاكرة القريبة و من ثم تحويلها إلى بعيدة
.. يشاركه في تكوين الذاكرة بأنواعها القشرة الأمامية ، العقد القاعدية و المخيخ و غيرها .
يبدأ هذا التركيب بالتطور منذ الولادة و لكنه يكون غير فعال بما فيه الكفاية لتخزين الذكريات حتى سن الخامسة ،
و هذه إحدى النظريات التي تجيب على السؤال ( لما لا نتذكر ولادتنا ؟ حياتنا الجنينية ؟ و العديد من ذكريات طفولتنا قبل الخامسة من العمر ) .
المسألة أعقد من قرن آمون بكثير ، وهذه نظرية واحدة من عدة نظريات ، إحداها تتحدث عن أهمية الحوادث و العواطف التي نتعامل معها بشكل يومي و كيف أنها يجب أن تكون كافية
لتكوين ذكرى متكاملة في أدمغتنا .. حيث أن كونك جنين لم تولد بعد ، يجعلك خاملاً عاطفياً و غير معرض لمواقف و أحداث تحفز جهازك الحوفي كفاية لكي يتطور و يقوم بوظيفته .
لنعود إلى العلم المُثبت بعيداً عن النظريات ..
قبل عام 1953 عانى هنري مولايسن من الصرع بعد إصابةٍ ما حدثت لرأسه ، مما أثر بشكل كبير على حياته و جعله يترك الدراسة .
هنري ذهب إلى جراح المخ و الأعصاب الشهير د.سكوفيلد لكي يقوم بإستئصال فص الدماغ المسؤول عن حدوث الصرع لديه ، قام د.سكوفيلد بإستئصال قرن آمون أيضاُ خلال العملية
عندما استقيظ هنري كان سعيداُ ، يأكل بشكل طبيعي و يتحدث و يتحرك ، و لكن د.سكوفيلد لاحظ أن ذاكرة هنري القريبة غير فعالة ، فهو يأكل نفس الوجبة مراراً ،
لا يتذكر ما قيل له قبل دقائق و يشاهد نفس البرنامج مراراً و تكراراً و كأنه يشاهده لأول مره . هنري عاش حتى عمر الثمانين و مات بسلام في دار المسنين
ولم يستطع إنجاز شيء في حياته بعد الجراحة ، و لكنه يتذكر كيف يأكل و كيف يقوم بوظائفه اليومية و كل الذكريات التي عاشها قبل الجراحة ..
قام العديد من علماء الأعصاب بدراسة حالة هنري و بفضل ذلك تم اكتشاف أنواع الذاكرة المختلفة و أماكن تكوينها و تخزينها في الدماغ .
ما صنع وجود هنري هو الذكريات التي عاشها قبل الجراحة , و الذكريات التي صنعها في ذاكرة من يحب ، عدى ذلك ، هنري ليس لديه أي انجازات
مع ذلك هنري كان موجوداً قبل الجراحة و لا زال موجوداً في ذاكرة العديد ما بعد الجراحة .
وكل شخص آخر غير هنري ، حيث آثروا ألّا يركضوا خلف رغباتهم ، الأسماء و الألقاب و الأموال و قرروا تقديس اللحظة و حفرها في ذاكرتهم ، لا زالوا موجودين بشكل ما !
في رواية جورج آر آر مارتن ، كان ملك الليل يريد القضاء على البشرية من خلال قتل بران ( الغراب ذو الثلاثة أعين )
حيث أن بران لديه جميع الذكريات التي ” كانت ” في كل الممالك السبع ، و بقتله يُقضى على كل البشرية ، فقط بالقضاء على ذكرياتهم و كأن لم يكونوا .
و في إحدى محاضرات أوشو قال ( أن الرغبات و الأحلام و الآمال في المستقبل تزعجك و تقسمك بينما كل شيء موجود في الحاضر . الرغبة و الشهوة تسحبك الى المستقبل
بينما الحياة , و الحقيقة هي الآن و هنا )
فهل حان الوقت لكي نقدّر رائحة عطر من نُحب ؟ صوت الأم و حضن الأب ؟
ضحكات الأخوة و الأصحاب و كلمة شكراً ممن أفسحنا له الطريق ؟
هل حان الوقت لكي نكف عن الركض وراء موتنا بجنون ، و نتوقف عند هذه اللحظة لنقبّل الهواء النقي من حولنا ؟
هل حان الوقت لكي نتخفّف من حاجتنا للإنتصار و نصغي لهذه اللحظة ، نخزنها جيداُ في ذاكرتنا حتى يبقى وجودنا أبدياً ؟